كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن أصرح أدلته: قراءة حمزة والكسائي {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} [البقرة: 191]. من القتل في الفعلين. لأن من قتل بالبناء للمفعول لا يمكن أن يؤمر بعد موته بأن يقتل قاتله، ولكن المراد: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، كما هو ظاهر، وقال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، وصح كون السموات ظرفًا للقمر. لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف. تقول. تقول: زيد في المدينة، وهو في جزء منها.
واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق. لأن لفظة {جَعَلَ} في الآية هي التي بمعنى صير، وهي تنصب المبتدأ والخبر، والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر، فقولك: جعلت الطين خزفًا، والحديد خاتمًا، لا يخفى فيه أن الطين هو الخرف بعينه، والحديد هو الخاتم، وكذلك قوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق، وكون المجعول فيها مطلق نوره، لأنه لو أريد ذلك لقيل: وجعل نور القمر فيهن أما قوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه، ويوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [الفرقان: 61]، وصرح في سورة الحجر في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر: 16-17]، وما يزعمه بعض الناس من أنه جل وعلا أشار غلى الاتصال بين أهل السماء والأرض في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]. يقال فيه: إن المراد جمعهم يوم القيامة في المحشر، كما أطبق عليه المفسرون، ويدل له قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
ويوضح ذلك تسمية يوم القيامة يوم الجمع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} [التغابن: 9]. الآية، وكثرة الآيات الدالة على أن جمع جميع الخلائق كائن يوم القيامة، كقوله: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103]، وقوله: {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الواقعة: 49-50]، وقوله: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} [النساء: 87]، وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلًا} [الفرقان: 25]، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47].
مع أن بعض العلماء قال: المراد ما بث من الداوب في الأرض فقط، فيكون من إطلاق المجموع مرادًا بعضه، وهو كثير في القرآن وفي لسان العرب، وبعضهم قال: الرماد بدواب السماء الملائكة زاعمًا أن الدبيب يطلق على كل حركة.
قال مقيده- عفا الله عنه: ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في الأرض دواب، ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السموات وأهل الأرض وعلى كل شيء، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعًا يوم القيامة، وقد اطبق على ذلك المفسرون ولو سلمنا تسليمًا جدليًا أنها تقول على جمعهم في الدنيا فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء بل يجوز عقلًا أن يتحدر من في السماء إلى من في الأرض لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله جل وعلا: {يا معشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]. يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحاث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية، وإذًا فإن الآية قد تكون فيها دلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السموات والأرض مردود من أوجه:
الأول: ان معنى الآية الكريمة هو إعلام الله جل وعلا أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة. فكلما فروا إلى جهة وجودا صفوف الملائكة أمامهم، ويقال لهم في ذلك الوقت {يامعشر الجن والإنس} الآية والسلطان: قيل الحجة والبينة، وقيل الملك والسلطنة وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ والملك صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 32-33].
الوجه الثاني: أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السموات والأرض وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9]. الآية وإنما منعوا من ذلك حين بعث صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9]. فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل جل وعلا يا معشر الجن لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم.
الوجه الثالث: أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية على الله جل وعلا من أن يطلق عليه اسم السلطان. لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه ألبتة لما بعد الموت، ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله جل وعلا: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]. إلى قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]، وعمله هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6-7]. فحذق الكفار في الصناعات اليدوية كحذق بعض الحيوانات في صناعتها بإلهام الله لها ذلك، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس يحار فيه حذاق المهندسين، ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها أبت أن تعلمهم فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء كيلا يروا كيفية بنائها، كما أخبرتنا الثقة بذلك.
الوجه الرابع: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن أن ذلك المعنى المزعون كذبا هو معنى الآية فإن الله أتبع ذلك بقوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 35]. الآية فهو يدل على ذلك التقرير على أنهم لو أرادوا النفوذ من أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس والشواظ اللهب الخالص والنحاس الدخان ومنه قول النابغة:
يضيء كضوء سراج السليـ ** ط لم يجعل الله فيه نحاسا

وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السموات وأهل الأرض بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السماء والأرض} [الأنبياء: 4]. الآية بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور وبصيغة الماضي {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ} الآية في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص فمعنى الآية أنه صلى الله عليه وسلم أخبر قائلًا إن ربه جل وعلا يعلم ما يقال في السماء والأرض وهذا واضح لا إشكال فيه ولا شك أنه جل وعلا عالم لكل أسرار السماء والأرض وعلانياتهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله جل وعلا من أنه تعالى أشار إلى أهل الأرض سيصعدون إلى السموات واحدة بعد أخرى بقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19]. زاعمًا أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقًا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السموات فهو أيضًا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به.
اعلم أولًا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتيع مشهورتين إحداهما لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النَّبي أي لتركبن أنت يا نبيَّ الله طبقًا عن طبق أي بعد طبق حالًا بعد حال أي فترتقي في الدرجات درجة بعد درجة والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي.
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ** وساقني طبق منها إلى طبق

وقول الآخر:
كذلك المرء إن ينسأ له أجل ** يركب على طبق من بعده طبق

أي: حال بعد حال في البيتين وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكبي وغيرهم لتركبن طبقًا عن طبق أي لتصعدن با محمد سماء بعد سماء وقد وقع ذلك ليلة الإسراء والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي سماء طبقًا أي لتنتلقن السماء من حال إلى حال أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب، والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق: 6]. الآية لتركبن أيها الإنسان حالًا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ومن غنى إلى فقر كالعكس ومن موت إلى حياة كالعكس ومن هو من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم {لتركبن} بضم الباء وهو خطاب عام للناس المذكورين في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 7]. إلى قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]. الآية ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالًا بعد حال فتنتقلون في دار الدنيا من طور إل طور وفي الآخرة من هول إلى هول فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقًا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا جائزًا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المتنقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة بدليل قوله بعده مرتبًا له عليه بالفاء {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20-21]. فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ومن هول إلى هول فما المانع لهم من ان يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق كما هو معروف في لغتهم.
الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب وهو أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنًا من كان، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق، والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله جل وعلا من أن اللع تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السموات بقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]. الآية فقالوا تسخيره جل وعلا ما في السموات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السموات والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم وانتشار الضوء عليهم ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} [إبراهيم: 33]. الآية ومنافع الشمس والقمر الذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو وقال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاءً والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [الإسراء: 12]. إلى غير ذلك من الآيات المينة لذلك التسخير لأهل الأرض، وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى: {والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54]. الآية وقال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 97]. الآية وقال: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. إلى غير ذلك من الآيات. فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن، ومما وسوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، فإن معنى مرورهم على ما في السموات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} [الأعراف: 185]. الآية وقوله: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 101]. الآية وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53]. إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ليس فيه شيء البتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة وإنما فيه فساد الدارين، ونحن إذا نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. كما سترى بسطه إن شاء اله في سورة بني إسرائيل.
فإن قيل. هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في حفظها من استراق السمع وذلك إنما يكون من شياطين الجن فدل على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن؟
فالجواب: أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار. قال في لسان العرب: والشيطان معروف وكل عات متمرد من لإنس والجن والدواب شيطان، وقال في القاموس والشيطان معروف وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اهـ.
ولا شك أن من أشد الكفار تمردًا وعتوًا الذين يحاولون بلوغ السماء فدخولهم في اسم الشطان لغة لا شك فيه وإذا لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر: 17]. صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنًا من كان، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول، وحفظ السماء من الشيطين معناه حراستها منهم، قال الوهري في صحاحه: حفظت الشيء حفظًا أي حرسته اهـ، وقال صاحب لسان العرب: وحفظت الشيء حفظًا أي حرسته اهـ، وهذا معروف في كلام العرب، فيكن مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر: 17]. أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد.
ولا مفهوم مخالفة لقوله: {رَّجِيمٍ} وقوله: {مَّارِدٍ} [الصافات: 7]. لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد وإن كان بعضهم أقوى تمرادًا من بعض وما حرسه الله جل وعلا من كل عات متمرد لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنًا من كان {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]، والعلم عند الله تعالى اهـ.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}.
اللواقح لاقح وأصل اللاقح التي قبلت فحملت الجنين، ومنه قول ذي الرمة:
إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت ** بمثل الخوافي لاقحًا أو تلقح

وأصل تلقح تتلقح حذفت إحدى التاءين أي توهم أنها لاقح وليس كذلك ووصف الرياح بكونها لواقح لأنها حوامل تحمل المطر كما قال تعالى: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا} [الأعراف: 57]. أي حملت سحابًا ثقالًا فاللواقح من الإبل حوامل الأجنة واللواقح من الريح حوامل المطر فالجميع يأتي بخير ولذا كانت الناقة التي لا تلد يقال لها عقيم كما أن الريح التي لا خير فيها يقال لها عقيم كما قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] الآية.